Saturday 1 October 2022

وائل

 

28.09.2022


هذه القصّة ليست عنّي بل عن صبيّ في الثامنة أو التاسعة من العمر يُدعى وائل. كان يرتاد معها نفس الفصل بالصفّ الثالث الابتدائي من تلك المدرسة الوحيدة في ضيعة صغيرة هادئة وادعة.

لم يكن وائل يهتمّ سوى للعب والضحك والمزاح. المدرسة بالنسبة له لم تكن مكاناً إلّا لملاقاة الأصحاب والتسلية والمرح. كان يجلس في الكنبة الأخيرة كعادة التلاميذ المشاغبين غير آبهٍ لا بالمعلّمة ولا بالدرس. كان يقوم بتكوير الورق مستخدماً لعابه إلى كرات صغيرة يُدخلها داخل القلم بدلاً من الحبر ثم يقوم بنفخها باتجاه هدفه؛ مرّة يصوّبها نحو السقف الذي التصقت به عشرات الكرات الصغيرة من الورق، وتارةً يصوّبها نحو رقبة أحد التلاميذ المساكين من الخلف. لا يستطيع وائل أن يجلس لمدّة طويلة دون فعل شيء شقيّ؛ لم يكن الصبيّ يريد أن يثير المشاكل أو أن يستفزّ أحد، لقد كان يريد المرح فحسب.

كان اسم وائل دائماً ما يكون الأوّل في قوائم المشاغبين. كانت الآنسة خديجة دائماً ما تعاقبه بالضرب حيناً أو النبذ في أحد زوايا الفصل مرفوع اليدين وأحد القدمين، ولكن لا يبدو أنّ وائل قابلٌ للعقاب أو الكسر لأنّه لا يكفّ عن الشقاوة حتّى وهو في أحلك الظروف.

كانت لا تعرف سرّ سعادته، لمَ هو سعيدٌ دائماً هكذا؟ لماذا لا يتأثّر بكل هذا النقد أو ذلك العقاب المتكرّر؟ لمَ لا يخبره أحدٌ أنّ عليه حلّ واجباته أو أنّ عليه تحسين علاماته الدراسيّة؛ لمَ لا يبكي أبداً؟ بدأ الأمر يثير فضولها ويحيّرها أكثر فأكثر وأحياناً يغيظها، فهي على العكس تماماً منه تهتم لرأي معلّمتها فيها، تبذل جهدها لتنال استحسان أهلها. كان الأمر دراميّاً عندما حصلت على ثمانية من عشرة في الإملاء لأنّها لم تضع الشدّات. الشدّة حرف، لمَ نسيتِ الشدّة؟

كان ذلك اليوم الذي نسيت فيه تلك الفتاة الشدّة حزيناً، حتّى الأيّام التي تلت تلك الحادثة كانت مليئة بإحساس الأسى والخزي، وذلك الوائل بالطبع لا يهمّه ما حصل في اختبار الإملاء. لم تكن تعلم درجته، ربّما رسب كالعادة، هي أيضاً لم تكن تعيره اهتماماً فهي تجلس في الكنبة الأولى وتستمع للدرس باهتمام، أمّا هو الطالب "الكسلان" السعيد في كل الأحوال لا يكفّ عن تحضير المقالب التي ستجلب له الكثير من الضحك والمتعة والعقاب أحياناً.

في إحدى حصص النشاط المدرسيّ، وهو وقت لا يكون فيه درس، بل يُسْمَح للتلاميذ بفعل ما يشاؤون. كعادته وائل لم يكن ليضيّع الوقت للاستفادة من هذه الفرصة الثمينة فبدأ مع فتية آخرين بلعب كرة القدم. أمّا هي فلم تكن تفعل شيئاً معيّناً؛ فقط تراقب من بعيد وتتعجّب لأمر هذا الوائل وهو يركضُ في الباحة وشعره يتحرك بكل انسيابية معه. أمّا هي لا يبدو أنّها تعلم كيف تستمتع بوقتها مثله أو أن تكون سعيدة مثله. فجأة وفي غمرة أفكارها وقعت على الأرض. كانت هذه الكرة التي ركلها بها وائلٌ نفسه – دون قصدٍ منه طبعاً – لقد أصابت الكرة رأسها وأفقدتها توازنها، وامتلأ شعرها بالتراب وبدأت تبكي من شدّة الضربة، رأتها المعلّمة وقامت بمواساتها وترتيب شعرها وسألتها عن الفاعل. وجدت الفتاة فرصتها أخيراً للانتقام من ذلك الوائل؛ فأشارت بإصبعها نحوه. وعلى الفور أمرت المعلّمة وائل أن يلتفت نحو الحائط وأن يقوم برفع يديه وإحدى رجليه - بالمناسبة هذا العقاب مؤلم، يجعل يديك ورجليك يُصابان بالشدّ العضليّ. ولباقي حصّة النشاط كان وائل معاقباً، لكن هل كان حزيناً أو غاضباً؟ بالطبع لا.   

أمّا أنا فلم أكفّ عن توجيه النظرات الغاضبة واللائمة له، رغم أن رأسي لم يعد يؤلمني كثيراً. لكنّه كلّما رمقته بإحدى نظراتي تلك، كان ينفجر من الضحك وهو مُعلّق اليدين هكذا. لم يكن الأمر يهمّه كثيراً؛ فالعقاب سينتهي وسيعود مجدّداً للعب.

يبدو أنّ تلك الفتاة فهمت سرّ سعادة ذلك الصبيّ وائل. لقد كان مكتفياً بذاته، لم يكن يحاول إرضاء أو عدم إرضاء أحد، كان هو فقط. وهذا ما تحاول تعلّمه واستشعاره اليوم، أن تكون هي فقط؛ هي فقط بدون اعتذار، وبدون لو أو أو.

No comments:

Post a Comment