Friday 16 December 2016

البحث عن الإلهام


و بما أنّك مصرّ على أنّه بإمكانك القيام بشيء ما أكثر تأثيراً و أكثر متعة ومغامرة، على أنّه بإمكانك القيام بشيء يجعل الأدرينالين يتدفق أسرع والقلب ينبض ليضخ دماءً أكثر، قد يكون هذا شعوراً عامّاً لدى الكثير من الناس، الأمر الذي يجعله عاديّاً وغير مميّز بالمرّة.
هذا هو الاعتقاد، ولكنَّ الشعور لا يسير على نفس النسق مع الاعتقاد، فشعورك يحدّثك دائماً عن عبثيّة الوجود وفقدان الأشياء للمعنى، وذللك مهما حاولوا إلباسها ثوب المعنى، الأخلاق، الجمال، السعادة، الحب وكل ما هو برّاق وخلّاب، إلّا أنّك تعود لترى أنّ كل ما هو حولك بلا معنى وأنّ كلّ شيء يسير لنهاية حتميّة هي الموت. وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، فقد مات الكثير وقبورهم شاهدة عليهم، وسيموت الجميع، اليوم، غداً، بعد شهر، بعد سنة، أو ربما عشر، أو ربما بعد ثلاثين أو أربعين سنة. الكل سيموت وبمجرد تقبل هذه الحقيقة يصبح تقبل كل ما دونها من الحقائق سهلاً. الرسالة من حتميّة الموت هو أنّه ليس عليك القلق حيال شيء، بل عليك عيش المدّة المحدّدة لك على قيد الحياة في تحقيق هدف رسمته لنفسك، وتدّعي أنّه الأقرب لنفسك.
والواقع أنّك تريد أن تبتعد عن الفلسفات أعلاه وتركّز على ما بإمكانك فعله عمليّاً في هذه الفترة المحدّدة لك على وجه الأرض، وهذه الفترة قد تمر فيها أوقات تتمنّى أنّك لم تكن على وجه البسيطة، أو أن تكون نسياً منسياً وأن لا يتذكّرك أحد لا بخير و لا بشرّ، وأن يدعوك لشأنك فقط في هدوء وسلام. قد يبدو هذا سلبيّاً، لا بأس فليكن كذلك.
كلّ المشاعر الإنسانيّة أصبحت مبتذلة، الكل يعبّر عن حزنه، الكل يعبر عن غضبه، الكلّ يعبّر عن كل شيء، لم يعد هناك شيء مميّز، الكلّ أصبح مضحكاً ويجيد المزاح، الجميع أصبح يقوم بفعل نفس الشيء وفي نفس التوقيت، الكلّ يجب أن يعبر عن رأيه في كل شيء و في كل حدث وحادثة.
الاختلافات الفرديّة هي أمر غير مرحب به في هذا العالم، المختلفون هم أصوات نشاز غير مرغوب بها  وسيقوم البعض بكل ما يلزم للضغط عليها وإقصائها ليعلو مجدّداً صوت واحد لا منافس له. دعاة الديمقراطيّة والحريّة والعدالة يدعون إلى إقصاء من في السلطة كليّاً بل والانتقام منهم. من ينتمون للأقليّات المضطهدة يهددون باضطهاد مماثل لمن اضطهدوهم سابقاً. بينما هناك غياب شبه تام لدعوات التسامح، المساواة،المحاكمات العادلة لمن قاموا بجراثم، التصالح ونبذ العنف.

مما يدهشني أكثر أنّه رغم يقيني من أنّ لكل قصّة عدّة أوجه، وأنّ القصّة نفسها يمكن أن تُروى بشكل مختلف تماماً باختلاف الراوي، و أنّ لكل راوي عدد مقدّر من المؤيدين يشاركونه  روايته ويصدّقونها. المدهش في الأمر كيف يمكن أن يكون القتل و التهجير من وجهة نظر ما: هو فتح وتحرير، ومن وجهة نظر أخرى قد تكون قريبة ممّا ادّعيت أنّه "قتل وتهجير" كونه سقوط وإخفاق بالنسبة لهم. كيف يمكن ان تكون منأكّداً لدرجة  دعمك لطرف هو بكل تأكيد قاتل. ما هو المبرر النفسي الذي يدفعك لهذا. بشّار الجعفري مندوب سوريا في الأمم المتّحدة مثالا،ً فمنذ بداية الأزمة في بلده وهو ينبري مدافعاً عن سياسات نظامه بكل فصاحة  وهو يبدو في بذلته تلك محترماً جدّاً، مثقّفاً و تقدّميّاً، لكنّه يدافع عن نظامه بالحماسة ذاتها منذ بداية الأزمة، لم يتراجع أو لم يراجع موقفه، يبدو واثقاً جدّاً، ثقة محيّرة. كيف يمكن لإنسان أن يدافع عن نظام مجرم بلا ريب كلّ هذه المدّة، يهاجم الغرب في عقر دارهم ودول الخليج وغيرها من الدول العربيّة، ألم يفكّر لحظة واحدة في أن يكون على خطأ، ألم يفكّر في أنّه منذ زمن أصبح جزءاً من الجريمة، أيّ سبب على وجه الأرض يجعله بهذا اليقين بأنّ مايقوم به هو الصواب وأنّه يدافع عن الطرف الصائب.
ويعود السؤال ذاته، كيف يمكن أن تكون الحقيقة نسبيّة لهذه الدرجة، ألا يجدر أن تكون هناك (Moralische Richtlinien) أيّ موجّهات أخلاقيّة علينا اتباعها قبل إصدار أي حكم أو إبداء أي تأييد لهذا الطرف أو ذاك.


الكلام أعلاه هو كلام عبثيّ آخر أوجدته الصدفة والمزاج، وهو تراكم عبثيّ للمعلومات وتعبير غير متّسق عنها، لن يغيّر وقد يتغيّر بتغيّر النمو النفسي والعقلي لصاحبه، ليضحي بالنسبة له لاحقاً توثيق حيّ لمدى غبائه، تسرعه وعدم حكمته.

Monday 26 September 2016

لم يُقل عبثاً



يُقال أنّ النجاح و التميّز في الحياة أو مايسمّونه التفرّد و العطاء كما يطلق عليه في كتب التنمية البشريّة لا يولد إلّا من رحم المعاناة والإخفاقات والمحاولات الفاشلة، لذلك اخترنا أنّ نؤمن بهذا لطول أمل عندنا أو ربما يقين و إيمان نابع من تجارب سابقة كللها النجاح، جعلتنا نختار أن نؤمن بأن هذا لم يُقل عبثاً؛ و إنمّا كُتِب، وعن تجربة. بل إنّ هذا عصارة تجارب أكثر الناس نجاحاً. ربما أيضاً اخترنا أن نؤمن بهذا لشعور غير واعٍ لدينا بأن لابد أن يكون هناك محصّلة عادلة لجهد ما.
لكن هناك و رغم كل هذا الإيمان لحظات شكّ تساورك، تنغص نومك وتقض مضجعك، تجعلك خائفاً من مقبل الأيام، لا تعرف إن كانت مساعيك ومحاولاتك ستوصلك إلى ما تريد أم لا. هل عليك أن تستسلم للتيار وتدع ما فُرض عليك يحدّد مسارك. هل تستسلم للفرص السهلة التي لا تلبّي طموحاتك الشخصيّة لمجرّد أنّها قد لا تتكرر، أو تشكّك في نجاحك في تحقيق حلم قد طال تأجيله. هل يمكن لكل هذه القصص الملهمة أن تكون مجرّد تجارب فرديّة و ليست قاعدة يمكن العمل بها، هل يمكن لمعاناتهم وماتحملوه من مآسي و آلام قد تُوِّجت بنجاح لكونهم مختلفون ولا يمكن تكرارهم. هل يمكن لشخصي المتواضع والضئيل أن يحتذي بهم وأن يتفاءل بأنَّ سعيه سيُرى.
قد يدفعك التشاؤم أو ربّما لعلّها الواقعيّة إلى أن تعتقد أنّ الطموح والأحلام كلّها كماليات وأنّها قد خلقت لأشخاص معيّنين، وأن هناك قليلون في العالم استطاعوا تحقيقها لاعتبارات تتعلق بكونهم مميزين جدّاً، فريدين من نوعهم، لا يعرفون لليأس طريقاّ، أو ربما محظوظين (رغم كرهي وعدم اقتناعي بهذا السبب).
تشعر أحياناً بأنّك تبالغ في تقدير قدراتك و إمكانياتك، وتبدأ في إقناع نفسك تحت تأثير هذه العوامل الخارجيّة_التي بالطبع أنت سبب كبير في تعرضك لها_ تبدأ في إقناع نفسك بأنّك لست بهذه الأهميّة التي تضعها لنفسك وأنّ عليك أن تقنع بما لديك وأن تنتهز الفرص السّهلة والمضمونة لعيش حياة قد يعتقدها الآخرون مُرضية بل وأكثر من مُرضية.
عليك أن تنسى أحلام طفولتك، عليك أن تنسى ما تعلّمته من برنامج الطفولة المفضّل "شمّا في البراري الخضراء Anne of Green Gables" ، عليك أن تنسى كل تلك القصص الرّائعة عن أولئك الأشخاص الرائعين "الأسطوريين"، انسَ كل ذلك فكله كان وهماً، و اقنع بما تقدّمه لك الحياة وانسَ أمر الأحلام والطموحات.
ولكن لا، لا يمكن أن يكون هذا عادلاً، ماذا عنك، ماذا عن إرادتك، ماذا عن مقاومتك لهكذا أفكار، ما رأيك أن تعود لقاعدة طالما آمنت بها:
"يمكن لأي إنسان أن يحقق ما يريد، مادام أنّه يريده بقوّة ويسعى إليه بكل حواسه"
إنّها قاعدة جميلة وقد تبدو لطيفة وأحياناً كثيرة مثاليّة جدّاً، لكنّها ليست مستحيلة لكنّها تحتاج أن تتخلى عن منطقتك الآمنة، كما تحتاج الكثير و الكثير من الصبر و قليل من استعداد لتضحية.