Saturday 1 October 2022

وائل

 

28.09.2022


هذه القصّة ليست عنّي بل عن صبيّ في الثامنة أو التاسعة من العمر يُدعى وائل. كان يرتاد معها نفس الفصل بالصفّ الثالث الابتدائي من تلك المدرسة الوحيدة في ضيعة صغيرة هادئة وادعة.

لم يكن وائل يهتمّ سوى للعب والضحك والمزاح. المدرسة بالنسبة له لم تكن مكاناً إلّا لملاقاة الأصحاب والتسلية والمرح. كان يجلس في الكنبة الأخيرة كعادة التلاميذ المشاغبين غير آبهٍ لا بالمعلّمة ولا بالدرس. كان يقوم بتكوير الورق مستخدماً لعابه إلى كرات صغيرة يُدخلها داخل القلم بدلاً من الحبر ثم يقوم بنفخها باتجاه هدفه؛ مرّة يصوّبها نحو السقف الذي التصقت به عشرات الكرات الصغيرة من الورق، وتارةً يصوّبها نحو رقبة أحد التلاميذ المساكين من الخلف. لا يستطيع وائل أن يجلس لمدّة طويلة دون فعل شيء شقيّ؛ لم يكن الصبيّ يريد أن يثير المشاكل أو أن يستفزّ أحد، لقد كان يريد المرح فحسب.

كان اسم وائل دائماً ما يكون الأوّل في قوائم المشاغبين. كانت الآنسة خديجة دائماً ما تعاقبه بالضرب حيناً أو النبذ في أحد زوايا الفصل مرفوع اليدين وأحد القدمين، ولكن لا يبدو أنّ وائل قابلٌ للعقاب أو الكسر لأنّه لا يكفّ عن الشقاوة حتّى وهو في أحلك الظروف.

كانت لا تعرف سرّ سعادته، لمَ هو سعيدٌ دائماً هكذا؟ لماذا لا يتأثّر بكل هذا النقد أو ذلك العقاب المتكرّر؟ لمَ لا يخبره أحدٌ أنّ عليه حلّ واجباته أو أنّ عليه تحسين علاماته الدراسيّة؛ لمَ لا يبكي أبداً؟ بدأ الأمر يثير فضولها ويحيّرها أكثر فأكثر وأحياناً يغيظها، فهي على العكس تماماً منه تهتم لرأي معلّمتها فيها، تبذل جهدها لتنال استحسان أهلها. كان الأمر دراميّاً عندما حصلت على ثمانية من عشرة في الإملاء لأنّها لم تضع الشدّات. الشدّة حرف، لمَ نسيتِ الشدّة؟

كان ذلك اليوم الذي نسيت فيه تلك الفتاة الشدّة حزيناً، حتّى الأيّام التي تلت تلك الحادثة كانت مليئة بإحساس الأسى والخزي، وذلك الوائل بالطبع لا يهمّه ما حصل في اختبار الإملاء. لم تكن تعلم درجته، ربّما رسب كالعادة، هي أيضاً لم تكن تعيره اهتماماً فهي تجلس في الكنبة الأولى وتستمع للدرس باهتمام، أمّا هو الطالب "الكسلان" السعيد في كل الأحوال لا يكفّ عن تحضير المقالب التي ستجلب له الكثير من الضحك والمتعة والعقاب أحياناً.

في إحدى حصص النشاط المدرسيّ، وهو وقت لا يكون فيه درس، بل يُسْمَح للتلاميذ بفعل ما يشاؤون. كعادته وائل لم يكن ليضيّع الوقت للاستفادة من هذه الفرصة الثمينة فبدأ مع فتية آخرين بلعب كرة القدم. أمّا هي فلم تكن تفعل شيئاً معيّناً؛ فقط تراقب من بعيد وتتعجّب لأمر هذا الوائل وهو يركضُ في الباحة وشعره يتحرك بكل انسيابية معه. أمّا هي لا يبدو أنّها تعلم كيف تستمتع بوقتها مثله أو أن تكون سعيدة مثله. فجأة وفي غمرة أفكارها وقعت على الأرض. كانت هذه الكرة التي ركلها بها وائلٌ نفسه – دون قصدٍ منه طبعاً – لقد أصابت الكرة رأسها وأفقدتها توازنها، وامتلأ شعرها بالتراب وبدأت تبكي من شدّة الضربة، رأتها المعلّمة وقامت بمواساتها وترتيب شعرها وسألتها عن الفاعل. وجدت الفتاة فرصتها أخيراً للانتقام من ذلك الوائل؛ فأشارت بإصبعها نحوه. وعلى الفور أمرت المعلّمة وائل أن يلتفت نحو الحائط وأن يقوم برفع يديه وإحدى رجليه - بالمناسبة هذا العقاب مؤلم، يجعل يديك ورجليك يُصابان بالشدّ العضليّ. ولباقي حصّة النشاط كان وائل معاقباً، لكن هل كان حزيناً أو غاضباً؟ بالطبع لا.   

أمّا أنا فلم أكفّ عن توجيه النظرات الغاضبة واللائمة له، رغم أن رأسي لم يعد يؤلمني كثيراً. لكنّه كلّما رمقته بإحدى نظراتي تلك، كان ينفجر من الضحك وهو مُعلّق اليدين هكذا. لم يكن الأمر يهمّه كثيراً؛ فالعقاب سينتهي وسيعود مجدّداً للعب.

يبدو أنّ تلك الفتاة فهمت سرّ سعادة ذلك الصبيّ وائل. لقد كان مكتفياً بذاته، لم يكن يحاول إرضاء أو عدم إرضاء أحد، كان هو فقط. وهذا ما تحاول تعلّمه واستشعاره اليوم، أن تكون هي فقط؛ هي فقط بدون اعتذار، وبدون لو أو أو.

Friday 18 January 2019

التفاؤل أسلوب حياة


في الواقع نحن نتألّم

 أعتبرُ نفسي متفائلة لأبعد الحدود، عقلي يشبه متصفح الانترنت الذي يحوي كثيراً من ال (tabs)لا يستقرّ على (tab)واحد، يقفز من  (tab)إلى آخر لا يعرف ماذا يريد على وجه التحديد؛ هل هي رسالة الماجستير التي تنتظر أن تُكْتَب، هل هي والدتي التي تضع آمالاً عليّ، هل هي نفسي التي لا طالما تنتظر اللحظة المناسبة، اللحظة الأكثر اتّساقاً وأصالة لاتّخاذ أيّ قرار، حتّى إن كان هذا القرار (صُنع كوب من القهوة، لا فأنا أمزح؛ لقد تجاوزت هذا النوع من المصاعب)، أم هي التظاهرات المستمرّة في الشوارع ومايصاحبها من قتل وقمع.

عقلي في حالة بحث دائمة عن توكيدات بأنّ كل شيءٍ سيكون على مايرام، بأنّ العالم جميل ومكانٌ صالح للعيش، حتّى إن كان كلّ شيءٍ يدلّ على العكس. هذا العقل دائماً ماينكر أنّ ثمّة شرّ ما خفيّ هنا وهناك، هذا العقل لا يريد أن يصدّق هذا الأمر. هذا العقل يريد أن يصدّق أنّ هناك شيء واحد: أنّ هناك خير في كلّ مكان.
مهما حاول من هم حولي لفت نظري لاحتماليّة الشر، أتصدّى لهم ب: "لا، ربما، لعلّ". إن حاول من هم حولي إقناعي بأنّ شيء عادل ما لن ينجح، أقول لهم: "لا، ربما، لعلّ". لا أريد أن أقتنع بأنّ هناك شرّ مطلق، أو أنّ هذا الشرّ مقدّر له الفوز. يفوز الشرّ فقط عندما تقلّ ثقتنا باحتماليّة فوز الخير. لربما من يقرأ حديثي  هذا عن الخير والشرّ، قد يظنّها سذاجة وطفوليّة حالمة، ولكنّي أراها وسيلة للنجاة في هذا السيل من الإحباط.

من الصعب عليّ جدّاً أن أرى جدوى للتعبير عن مشاعري، خاصّة مشاعر الحزن، أمّي تحدّثني عن شهداء يوم 17 من يناير وأنا أبدو غير مكترثة، مع أنّي لا أستطيع أن أغلق الفيسبوك لثانية واحدة، أراقب بشرود وتجرّد و (detachment) غريب. أعلم أنّ ما يحدث ظلم وليس عادلاً، متيقّنة تماماً من ذلك، حتّى ما أعيد نشره على فيسبوك فهو على سبيل أداء الواجب، هو على سبيل أضعف الإيمان.

توقفت للحظة عن تصفّح الفيسبوك، حاولت إغماض عينَيّ، وجدتني أفكر برجال ملثّمين يحاولون اقتحام بيتنا، يحاولون ضربنا أنا وأميّ، لكنّي كنت أقول لهم: "أعلم أنّكم لستم أشراراً، أعلم أنّ هناك إنساناً ما بداخلكم طالما انتظر الوقت للخروج".
وجدتني توقفت عن التفكير عن هذه الخيالات، عندها بدأ الدمع يسيل، لوحده دونما استجداء، علمتُ حينها أنّه دمع صادق، علمتُ أنّ مشاعري ليست متحجّرة، اطمأننت على إنسانيتي قليلاً وعدتُ مجدّداً لمنطقة التفاؤل الآمنة، عدتُ إلى حيث أنتمي.

17 يناير 2019
أم درمان

Thursday 23 August 2018

ذات مساء

سأكون أكثر تحدّياً، أكثر إصراراً وأكثر إيجابيّة. لن أسمح للمشاعر السلبيّة بالتحكّم بي، سأصبر، وسأقاوم كلّ فكرة سلبيّة تخطر ببالي بالوسائل الروحيّة والحسّيّة. جئت هذا العالم لهدف، لسبب، لفكرة. لم آتِ عبثاً ولن أذهب عبثاً. سأبحث عن هذا السبب، عن هذا المعنى، وعن هذه الفكرة. لن أستسلم إذا لم أجد أيّاً منها، لكن يكفيني شرفاً أنّني سأعيش وأنا أحاول. لن أبكي إن فقدت البوصلة أوضللت الطريق، بل سأستمتع بكلّ خطوة أخطوها حتّى وإن كانت خطوات تائهة وحائرة، سأخوض هذا الطريق لنهايته.
أنا أعلم أنّه طريق به كثير من المنعرجات الحادّة، لا يهمّني، فقد شددت عزمي، ووضّبت حقيبة ظهري، واخترت حذاءين  جيّدين ليساعداني على المسير. أعلم أنني سأتوقف كثيراً للتاكد من سلامة أدواتي وصلاحيتّها لإكمال هذا الطريق، أم  أنّه عليّ أن أبدّلها بأخرى أكثر نجاعة وأكثر مناسَبةٍ  للخطوات القادمة.
 كلّما تسلّل اليأس وذلك الحزن الخفيّ إلى داخلي، سأتذكّر ذلك وسأعود لقراءته. أكتب هذا وأنا أقرأ كتاباً قريباً إلى نفسي، وأشرب كوباّ طيّباً من القهوة وأنا جالسة في حديقة وأنظر للقمر الذي في طريقه للاكتمال. مايزيد الأمر جماليّة ويجعله حالماّ هو صوت الماء المندفع من نافورة اصطناعيّة بالقرب منّي، بالإضافة إلى موسيقى هادئة لآلات غريبة تصدر من سمّاعة هاتفي.


تُصبح الكتابة (المتواضعة) مملّة إن نحنُ أُجبِرنا على إكمال قدرٍ معيّن من الكلمات؛ لذا سأكتفي بهذا القدر     :)

Wednesday 22 August 2018

الكائن غير المؤذي

أن تموت الكائنات البريئة "غير المؤذية" وهي تقوم بفعلٍ غير موذٍ لأنها تريد أن تعيش بكرامة في هذه الدنيا، أن تموت بسبب الإهمال في السلامة وعدم الاكتراث من قبل الأشخاص أو الجماعات هو فقط ما قد يذكّرنا بفشلنا في رعايتهم ومنحهم القدر الكافي الذي استحقّوه من الاهتمام.
لا يعود الكائن "غير المؤذي" مهمّاً إلّا عندما يحدث أمر جلل له، لا تعود حياته مهمّة إلّا عندما يفقدها ولا يعود محط التقدير إلّا عندما يرحل عن هذه الدنيا.
المقولة التي أكرهها "الحذر لا ينجي من القدر" هي مقولة مستفزّة. من قال ذلك عليه أن يعيد حساباته، لطالما أنقذ الحذر والاحتياط الناس. ماذا عن الأخذ بالأسباب، لماذا دائما مانلوم القدر. الحذر قد ينجي من القدر بكل تأكيد، أو قد يخفف القدر، وفي حالات قليلة قد يحدث وأن يكون القدر أقوى من الأسباب، ولكن يجب أن نلوم أنفسنا عندما لا ناخذ بالأسباب.
ماذا يفعل هذا الكائن "غير المؤذي" لكي يحظى باهتمامك في حياته، ماذا تُراه يفعل لكي تأخذه على محمل الجد وهو مازال على قيد الحياة.
ماذا يمكن أن نستفيد من درس حادث غرق تلاميذ المدارس وكيف يمكن أن نعمّمه على طريقة تعاملنا مع كل شخصٍ "غير مؤذٍ" في هذا البلد صغيراً كان أم كبيراّ؟ علينا أن نلتفت حولنا قليلاً لنرى كم أنّ هؤلاء غير المؤذين موجودين بيننا وبكثرة، كم أنهم غيرُ ملاحظين كأن لا وجود لهم. لا تمنحوهم الحبّ والعاطفة فقط -لا أقول أنّ هذا غير مهم، بل هو في غاية الأهميّة- لكن امنحوهم أيضاً الاهتمام والرعاية، تأكّدوا من سلامتهم وسلامة بيئتهم وأمنهم، تأكدوا من حصولهم على حاجاتهم الاساسية، لا تجعلوا حياتهم صعبة وخطرة. قد يبدو هذا "كليشيه" ولكننا دائماً مانفشل في تحقيق هذا لهم لأنهم ببساطة "غير مؤذين".
أن يذهب الأطفال لمدارسهم في ظروف جويّة خطرة دون أدنى تأكّد من أهليّة المركب لإيصالهم الضفة الأخرى من النهر، لا يمكن أن يُلام عليه القدر فقط؛ بل هو نتيجة مباشرة لعدم أخذ سلامتهم كأولويّة من قبل منظومة تعليميّة. أن تتهدّم مدرسة على رؤوس أطفالها لا يمكن أن تُلام عليه الظروف الجويّة، ولا يمكن أن تتطلق عليه اسم كارثة طبيعيّة؛ بل هم استهتار متعمّد بحياة الأطفال. أن تصل رسالة كهذه لجيل الصغار بأنّ حياتهم غير محطّ عناية من قبل الكبار، قد يجعلهم يفقدون الثقة بنا، قد تصلهم رسالة غير مباشرة بانّ حياتهم ليست غالية وليست ذات اهميّة تذكر. سينوح عليهم الكبار لعدّة أيّام ثم ينسوهم ليعودوا إلى ماكانوا عليه، وتتكرّر المأساة مرّات ومرّات.
كلّ حادثة كهذه قد تغيّر شيئاً فينا، قد يعود وقد لا يعود كما كان. ولكن بكل تأكيد شعور الاطمئنان والضمان (إن كان موجوداً) لن يعود كما كان. السؤال الباقي هنا؛ إلى متى ستستمر هذه التغيّرات في التراكم ومتى ستبدأ في جعلك تتّخذ موقفاً عمليّاً تجاه كل ذلك.
الحكومة تتعامل معكم كأشخاصٍ "غير مؤذين"، لذا هي تأمن جانبكم وستستمر بفعل ماتقوم به. لا تقوموا بمعاملة بعضكم بهذا المبدأ، مبدأ "غير المؤذي، مأمون الجانب وردّ الفعل". عندما لا يعود "غير المؤذي" موجوداً، ويعود فقدانه أمراً معتاداً وطبيعيّاً هذا يعني أنّنا نفقد إنسانيتنا، هذا إن لم نكن فقدناها من الأصل.
قد لا يعيد الحزن والرثاء أيّ شخصٍ "غير مؤذٍ" فقدناه، ولكن لا يجب أن نعود لسابق عهدنا باللامبالاة بوجوده والتعامل معه كشيءٍ مفروغ منه وعاديّ.
مبدأ "عدم الإيذاء" لايعني ضعف التأثير، ولكنه يعني أن يتم تجاهل وجودك ونسيانه والتعامل معه بلا مبالاة؛ لا لشيءٍ إلا أنّ الشخص "غير المؤذي" لا يستخدم أو ليس لديه الأدوات التقليديّة لإثبات وجوده وجذب الانتباه إلى قدراته التي تجعله ذا أهميّة من قبل مجتمع ما. لذا يقّرر الناس تجاهله؛ ظنّاً منهم أنّه غير ذي تأثير، ليكتشفوا بعد فقدانه أنهم هم التافهون وقليلو التأثير وأنّهم لا يمكن التعويل عليهم كثيراً.

انتهى

2018\08\17





Friday 2 March 2018

موقفٌ أخلاقيٌّ

في هذا العالم أن تحمل فكرة هو مشكلة، أن تؤمن بمبدأ هوأيضاً مشكلة، وأن تدافع عن هذا المبدأ وهذه الفكرة فهو مشكلة المشاكل. في عالم يدفعك أن تتلون بلونه، أن تقمع شخصيّتك ليتم قبولك. المشكلة لم تعد في القبول فقط، عدم القبول مقدور عليه وعلاجه سهل. الأمر يتجاوز ذلك إلى ممارسة العنف المادي وغير المادي متمثّلا في تجريدك من حقك في التعبير وظلمك. يحاولون تدجينك وجعلك مائعا، تحمل شعارا لا تعمل به، ومُثُلا لا حيّز لها من الواقع، وآراء فضفاضة هلاميّة مترهّلة تُعامَل بمثاليّة حالمة لا سبيل لممارستها عمليّا.
الحياة قاسية وغير عادلة، لا بل البشرقساة وغير مبالين بالعدل، يتلذذون في إذلال بعضهم البعض لإرضاء غرور السلطة وشعور القوة بداخلهم. تصبح العلاقات مع هذه الحقيقة مادّيّة جدّاً، أنانيّة ولا تخضع لأبسط المشاعر الانسانيّة الحقيقيّة التي يحملها الإنسان لأخيه الإنسان، ولا تخضع على الأقل للشعارات الرنّاتة التي يُتَغنَّى بها.
الاختلاف عمّا هو سائد يُشعل جذوة هذا التعطُّش عند هؤلاء للتباهي بالقوّة و افتراس أيّ قاصية عن الغنم. أمّا الآخرون فيتم الضغط عليهم بنفس الوسيلة لكي يسكتوا ولا يحاولوا إنقاذ القاصية. يراقبونها من بعيد وهي تُفتَرَس ببطء، بعضهم يحزن قليلاَ ثمّ ينسى ماحدث ويحاول تجنّب مصيرها، وبعضهم الآخر يناقض نفسه بين شعوره بضرورة إيقاف هذه الدائرة الشريرة وفعل شيء ما بدل الوقوف بلا حراك وبين خوفه على نفسه وأنانيّته المفرطة. يبقى هذا الاخير يحاول تبرير سكوته وانسحابيته بالظروف وقلّة الحيلة، في ذات الوقت يحاول إسكات صوت ضميره الذي يناديه لاتّخاذ موقف. حتّى في أسبابه التي تدعوه لاتّخاذ موقف يقع في نفس المأزق الأخلاقيّ السابق، حيث يجد نفسه يحاول أن يعرف أسباب رغبته في اتّخاذ موقف في ذاك الشأن، أهو بدافع الانتصار للحقيقة وإعادة حقّ القاصية المنتهك ولو معنويّاَ، أم هو بدافع أن تبرىء نفسك وتريح ضميرك وأن تجعل صورتك ناصعة أمام نفسك فقط وهو بالتالي أيضاَ دافع أنانيٌّ  جدّاً.
خلاصة الأمر، أن تجد نفسك صامتاّ أو مجبراً على الصمت لهو أمرٌ محزنٌ جدّا بمعنى الكلمة، لكنّه بات وبلا شكّ جزء من وجه هذا العالم القبيح. أن تجد نفسك صامتاً في الوقت الذي يجدر بك قول كلمة الحقّ يعني باانسبة لك أنّك ودعت طفولتك وبراءتك بلا عودة، هل سرقوا منك طفولتك وأعطوك بدلاً منها شيئاً آخر رغبت به؟ هذا سؤالٌ لم تتضح إجابته إلى الآن.

لا أظن أنهم قادرون على تغيير صوتك الدّاخلي، ربّما نجحوا في إسكات فمك وترويض رغبتك في النقاش ومحاولة معرفة الأسباب ولكنّهم لم ينجحوا في إسكات صوت ضميرك الذي يقول بصوت عالٍ جدّاً: "كم خاب أملي".

Friday 16 December 2016

البحث عن الإلهام


و بما أنّك مصرّ على أنّه بإمكانك القيام بشيء ما أكثر تأثيراً و أكثر متعة ومغامرة، على أنّه بإمكانك القيام بشيء يجعل الأدرينالين يتدفق أسرع والقلب ينبض ليضخ دماءً أكثر، قد يكون هذا شعوراً عامّاً لدى الكثير من الناس، الأمر الذي يجعله عاديّاً وغير مميّز بالمرّة.
هذا هو الاعتقاد، ولكنَّ الشعور لا يسير على نفس النسق مع الاعتقاد، فشعورك يحدّثك دائماً عن عبثيّة الوجود وفقدان الأشياء للمعنى، وذللك مهما حاولوا إلباسها ثوب المعنى، الأخلاق، الجمال، السعادة، الحب وكل ما هو برّاق وخلّاب، إلّا أنّك تعود لترى أنّ كل ما هو حولك بلا معنى وأنّ كلّ شيء يسير لنهاية حتميّة هي الموت. وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، فقد مات الكثير وقبورهم شاهدة عليهم، وسيموت الجميع، اليوم، غداً، بعد شهر، بعد سنة، أو ربما عشر، أو ربما بعد ثلاثين أو أربعين سنة. الكل سيموت وبمجرد تقبل هذه الحقيقة يصبح تقبل كل ما دونها من الحقائق سهلاً. الرسالة من حتميّة الموت هو أنّه ليس عليك القلق حيال شيء، بل عليك عيش المدّة المحدّدة لك على قيد الحياة في تحقيق هدف رسمته لنفسك، وتدّعي أنّه الأقرب لنفسك.
والواقع أنّك تريد أن تبتعد عن الفلسفات أعلاه وتركّز على ما بإمكانك فعله عمليّاً في هذه الفترة المحدّدة لك على وجه الأرض، وهذه الفترة قد تمر فيها أوقات تتمنّى أنّك لم تكن على وجه البسيطة، أو أن تكون نسياً منسياً وأن لا يتذكّرك أحد لا بخير و لا بشرّ، وأن يدعوك لشأنك فقط في هدوء وسلام. قد يبدو هذا سلبيّاً، لا بأس فليكن كذلك.
كلّ المشاعر الإنسانيّة أصبحت مبتذلة، الكل يعبّر عن حزنه، الكل يعبر عن غضبه، الكلّ يعبّر عن كل شيء، لم يعد هناك شيء مميّز، الكلّ أصبح مضحكاً ويجيد المزاح، الجميع أصبح يقوم بفعل نفس الشيء وفي نفس التوقيت، الكلّ يجب أن يعبر عن رأيه في كل شيء و في كل حدث وحادثة.
الاختلافات الفرديّة هي أمر غير مرحب به في هذا العالم، المختلفون هم أصوات نشاز غير مرغوب بها  وسيقوم البعض بكل ما يلزم للضغط عليها وإقصائها ليعلو مجدّداً صوت واحد لا منافس له. دعاة الديمقراطيّة والحريّة والعدالة يدعون إلى إقصاء من في السلطة كليّاً بل والانتقام منهم. من ينتمون للأقليّات المضطهدة يهددون باضطهاد مماثل لمن اضطهدوهم سابقاً. بينما هناك غياب شبه تام لدعوات التسامح، المساواة،المحاكمات العادلة لمن قاموا بجراثم، التصالح ونبذ العنف.

مما يدهشني أكثر أنّه رغم يقيني من أنّ لكل قصّة عدّة أوجه، وأنّ القصّة نفسها يمكن أن تُروى بشكل مختلف تماماً باختلاف الراوي، و أنّ لكل راوي عدد مقدّر من المؤيدين يشاركونه  روايته ويصدّقونها. المدهش في الأمر كيف يمكن أن يكون القتل و التهجير من وجهة نظر ما: هو فتح وتحرير، ومن وجهة نظر أخرى قد تكون قريبة ممّا ادّعيت أنّه "قتل وتهجير" كونه سقوط وإخفاق بالنسبة لهم. كيف يمكن ان تكون منأكّداً لدرجة  دعمك لطرف هو بكل تأكيد قاتل. ما هو المبرر النفسي الذي يدفعك لهذا. بشّار الجعفري مندوب سوريا في الأمم المتّحدة مثالا،ً فمنذ بداية الأزمة في بلده وهو ينبري مدافعاً عن سياسات نظامه بكل فصاحة  وهو يبدو في بذلته تلك محترماً جدّاً، مثقّفاً و تقدّميّاً، لكنّه يدافع عن نظامه بالحماسة ذاتها منذ بداية الأزمة، لم يتراجع أو لم يراجع موقفه، يبدو واثقاً جدّاً، ثقة محيّرة. كيف يمكن لإنسان أن يدافع عن نظام مجرم بلا ريب كلّ هذه المدّة، يهاجم الغرب في عقر دارهم ودول الخليج وغيرها من الدول العربيّة، ألم يفكّر لحظة واحدة في أن يكون على خطأ، ألم يفكّر في أنّه منذ زمن أصبح جزءاً من الجريمة، أيّ سبب على وجه الأرض يجعله بهذا اليقين بأنّ مايقوم به هو الصواب وأنّه يدافع عن الطرف الصائب.
ويعود السؤال ذاته، كيف يمكن أن تكون الحقيقة نسبيّة لهذه الدرجة، ألا يجدر أن تكون هناك (Moralische Richtlinien) أيّ موجّهات أخلاقيّة علينا اتباعها قبل إصدار أي حكم أو إبداء أي تأييد لهذا الطرف أو ذاك.


الكلام أعلاه هو كلام عبثيّ آخر أوجدته الصدفة والمزاج، وهو تراكم عبثيّ للمعلومات وتعبير غير متّسق عنها، لن يغيّر وقد يتغيّر بتغيّر النمو النفسي والعقلي لصاحبه، ليضحي بالنسبة له لاحقاً توثيق حيّ لمدى غبائه، تسرعه وعدم حكمته.

Monday 26 September 2016

لم يُقل عبثاً



يُقال أنّ النجاح و التميّز في الحياة أو مايسمّونه التفرّد و العطاء كما يطلق عليه في كتب التنمية البشريّة لا يولد إلّا من رحم المعاناة والإخفاقات والمحاولات الفاشلة، لذلك اخترنا أنّ نؤمن بهذا لطول أمل عندنا أو ربما يقين و إيمان نابع من تجارب سابقة كللها النجاح، جعلتنا نختار أن نؤمن بأن هذا لم يُقل عبثاً؛ و إنمّا كُتِب، وعن تجربة. بل إنّ هذا عصارة تجارب أكثر الناس نجاحاً. ربما أيضاً اخترنا أن نؤمن بهذا لشعور غير واعٍ لدينا بأن لابد أن يكون هناك محصّلة عادلة لجهد ما.
لكن هناك و رغم كل هذا الإيمان لحظات شكّ تساورك، تنغص نومك وتقض مضجعك، تجعلك خائفاً من مقبل الأيام، لا تعرف إن كانت مساعيك ومحاولاتك ستوصلك إلى ما تريد أم لا. هل عليك أن تستسلم للتيار وتدع ما فُرض عليك يحدّد مسارك. هل تستسلم للفرص السهلة التي لا تلبّي طموحاتك الشخصيّة لمجرّد أنّها قد لا تتكرر، أو تشكّك في نجاحك في تحقيق حلم قد طال تأجيله. هل يمكن لكل هذه القصص الملهمة أن تكون مجرّد تجارب فرديّة و ليست قاعدة يمكن العمل بها، هل يمكن لمعاناتهم وماتحملوه من مآسي و آلام قد تُوِّجت بنجاح لكونهم مختلفون ولا يمكن تكرارهم. هل يمكن لشخصي المتواضع والضئيل أن يحتذي بهم وأن يتفاءل بأنَّ سعيه سيُرى.
قد يدفعك التشاؤم أو ربّما لعلّها الواقعيّة إلى أن تعتقد أنّ الطموح والأحلام كلّها كماليات وأنّها قد خلقت لأشخاص معيّنين، وأن هناك قليلون في العالم استطاعوا تحقيقها لاعتبارات تتعلق بكونهم مميزين جدّاً، فريدين من نوعهم، لا يعرفون لليأس طريقاّ، أو ربما محظوظين (رغم كرهي وعدم اقتناعي بهذا السبب).
تشعر أحياناً بأنّك تبالغ في تقدير قدراتك و إمكانياتك، وتبدأ في إقناع نفسك تحت تأثير هذه العوامل الخارجيّة_التي بالطبع أنت سبب كبير في تعرضك لها_ تبدأ في إقناع نفسك بأنّك لست بهذه الأهميّة التي تضعها لنفسك وأنّ عليك أن تقنع بما لديك وأن تنتهز الفرص السّهلة والمضمونة لعيش حياة قد يعتقدها الآخرون مُرضية بل وأكثر من مُرضية.
عليك أن تنسى أحلام طفولتك، عليك أن تنسى ما تعلّمته من برنامج الطفولة المفضّل "شمّا في البراري الخضراء Anne of Green Gables" ، عليك أن تنسى كل تلك القصص الرّائعة عن أولئك الأشخاص الرائعين "الأسطوريين"، انسَ كل ذلك فكله كان وهماً، و اقنع بما تقدّمه لك الحياة وانسَ أمر الأحلام والطموحات.
ولكن لا، لا يمكن أن يكون هذا عادلاً، ماذا عنك، ماذا عن إرادتك، ماذا عن مقاومتك لهكذا أفكار، ما رأيك أن تعود لقاعدة طالما آمنت بها:
"يمكن لأي إنسان أن يحقق ما يريد، مادام أنّه يريده بقوّة ويسعى إليه بكل حواسه"
إنّها قاعدة جميلة وقد تبدو لطيفة وأحياناً كثيرة مثاليّة جدّاً، لكنّها ليست مستحيلة لكنّها تحتاج أن تتخلى عن منطقتك الآمنة، كما تحتاج الكثير و الكثير من الصبر و قليل من استعداد لتضحية.